فصل: كلام نفيس لابن القيم في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.كلام نفيس لابن القيم في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
روى مسلم في صحيحه من حديث بن أبي حازم عن عقبة بن عامر قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}» وفي لفظ آخر من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون قلت بلى: قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}». وفي الترمذي حدثنا قتيبة بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة» إسناده فيه ضعف وهو صحيح لغيره قال: هذا حديث غريب وفي الترمذي والنسائي وسنن أبي داود عن عبد الله بن حبيب قال: «خرجنا في ليلة مطر وظلمة نطلب النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا فأدركناه فقال: قل فلم أقل شيئا ثم قال: قل فلم أقل شيئا ثم قال: قل قلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء» صحيح قال الترمذي: حديث حسن صحيح وفي الترمذي أيضا من حديث الجريري عن أبي هريرة عن أبي سعيد الخدري قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذهما وترك ما سواهما» حسن قال: وفي الباب عن أنس وهذا حديث غريب نفث النبي بالمعوذتين وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا آوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} والمعوذتين جميعا ثم يسمح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده قالت عائشة فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به» رواه البخاري ومسلم وأبو داود قلت: هكذا رواه يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة ذكره البخاري ورواه مالك عن الزهري عن عروة عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها». رواه البخاري ومسلم كذلك قال معمر عن الزهري عن عروة عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن وأمسح بيده نفسه لبركتها» فسألت ابن شهاب كيف كان ينفث قال: ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. رواه البخاري ذكره البخاري أيضا وهذا هو الصواب أن عائشة كانت تفعل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها ولم يمنعها من ذلك وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه فلا ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى فظن أنها لما فعلت ذلك وأقرها على رقيته أن يكون مسترقيا فليس أحدهما بمعنى الآخر ولعل الذي كان يأمرها به إنما هو المسح على نفسه بيده فيكون هو الراقي لنفسه ويده لما ضعفت عن التنقل على سائر بدنه أمرها أن تنقلها على بدنه ويكون هذا غير قراءتها هي عليه ومسحها على يديه فكانت تفعل هذا وهذا والذي أمرها به إنما هو تنقل يده لا رقيته والله أعلم والمقصود الكلام على هاتين السورتين وبيان عظيم منفعتهما وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما وأنه لا يستغني عنهما أحد قط وأن لهما تأثيرا خاصا في دفع السحر والعين وسائر الشرور وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس فنقول والله المستعان قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول وهي أصول الاستعاذة أحدها:
نفس الاستعاذة والثانية: المستعاذ به والثالثة: المستعاذ منه فبمعرفة ذلك تعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين فلنعقد لهما ثلاثة فصول الفصل الأول: في الاستعاذة.
والثاني: في المستعاذ به والثالث: في المستعاذ منه.
الفصل الأول:
اعلم أن لفظ عاذ وما تصرف منها يدل على التحرز والتحصن والنجاة وحقيقة معناها الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه ولهذا يسمى المستعاذ به مع إذا كما يسمى ملجأ ووزرا وفي الحديث: «أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها قالت: أعوذ بالله منك فقال لها: قد عذت بمعاذ الحقي بأهلك» رواه البخاري فمعنى أعوذ ألتجئ وأعتصم وأتحرز وفي أصله قولان أحدهما: أنه مأخوذ من الستر.
والثاني: أنه مأخوذ من لزوم المجاورة فأما من قال: إنه من الستر قال: العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها عوذ بضم العين وتشديد الواو وفتحها فكأنه لما عاذ بالشجرة واستتر بأصلها وظلها سموه عوذا فكذلك العائد قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه واستجن به منه ومن قال: هو لزوم المجاورة قال العرب تقول للحم اذا لصق بالعظم فلم يتخلص منه عوذ لأنه اعتصم به واستمسك به فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به واعتصم به ولزمه والقولان حق والاستعاذة تنتظمهما معا فإن المستعيذ مستتر بمعاذه متمسك به معتصم به قد استمسك قلبه به ولزمه كما يلزم الولد أباه إذا أشهر عليه عدوه سيفا وقصده به فهرب منه فعرض له أبوه في طريق هربه فإنه يلقي نفسه عليه ويستمسك به أعظم استمساك فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه وفر إليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ إليه وبعد فمعنى الاستعاذة القائم بقلبه وراء هذه العبارات وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من الالتجاء والاعتصام والإنطراح بين يدي الرب والافتقار إليه والتذلل بين يديه أمر لا تحيط به العبارة ونظير هذا التعبير عن معنى محبته وخشيته وإجلاله ومهابته فإن العبارة تقصر عن وصف ذلك ولا تدرك إلا بالاتصاف بذلك لا بمجرد الصفة والخبر كما أنك إذا وصفت لذة الوقاع لعنين لم تخلق له شهوة أصلا فلو قربتها وشبهتها بما عساك أن تشبهها به لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه فإذا وصفتها لمن خلقت فيه وركبت فيه عرفها بالوجود والذوق وأصل هذا الفعل أعوذ بتسكين العين وضم الواو ثم أعل بنقل حركة الواو إلى العين وتسكين الواو فقالوا أعوذ على أصل هذا الباب ثم طردوا إعلاله فقالوا في اسم الفاعل عائذ وأصله عاوذ فوقعت الواو بعد ألف فاعل فقلبوها همزة كما قالوا قائم وخائف وقالوا في المصدر عي إذا بالله وأصله عو إذا كلواذ فقلبوا الواو ياء لكسرة ما قبلها ولم تحصنها حركتها لأنها قد ضعفت بإعلالها في الفعل وقالوا مستعيذ وأصله مستعوذ كمستخرج فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلها ثم قلبت الواو قبلها كسرة فقلبت ياء على أصل الباب فإن قلت: فلم دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل كقوله فاستعذ بالله ولم تدخل في الماضي والمضارع بل الأكثر أن يقال أعوذ بالله وعذت بالله دون أستعيذ واستعذت قلت: السين والتاء دالة على الطلب فقوله: أستعيذ بالله أي أطلب العياذ به كما إذا قلت أستخير الله أي أطلب خيرته وأستغفره أي أطلب مغفرته وأستقيله أي أطلب إقالته فدخلت في الفعل إيذانا لطلب هذا المعنى من المعاذ فإذا قال المأمور: أعوذ بالله فقد امتثل ما طلب منه لأنه طلب منه الالتجاء والاعتصام وفرق بين نفس الالتجاء والاعتصام وبين طلب ذلك فلما كان المستعيذ هاربا ملتجئا معتصما بالله أتى بالفعل الدال على ذلك دون الفعل الدال على طلب ذلك فتأمله وهذا بخلاف ما إذا قيل: أستغفر الله فقال: أستغفر الله فإنه طلب منه أن يطلب المغفرة من الله فإذا قال أستغفر الله كان ممتثلا لأن المعنى أطلب من الله تعالى أن يغفر لي وحيث أراد هذا المعنى في الاستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين فيقول أستعيذ بالله تعالى أي أطلب منه أن يعيذني ولكن هذا معنى غير نفس الاعتصام والالتجاء والهرب إليه فالأول: يخبر عن حاله وعياذه بربه وخبره يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه.
والثاني: طالب سائل من ربه أن يعيذه كأنه يقول أطلب منك أن تعيذني فحال الأول أكمل مجيء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في امتثال هذا الأمر: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأعوذ بكلمات الله التامات وأعوذ بعزة الله وقدرته» دون أستعيذ بل الذي علمه الله إياه أن يقول: {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} دون أستعيذ فتأمل هذه الحكمة البديعة.
فإن قلت: فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ومعلوم أنه إذا قيل: قل الحمد لله وقل سبحان الله فإن امتثاله أن يقول الحمد لله وسبحان الله ولا يقول قل سبحان الله قلت: هذا هو السؤال الذي أورده أبي بن كعب على النبي صلى الله عليه وسلم بعينه وأجابه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال البخاري في صحيحه حدثنا قتيبة ثنا سفيان عن عاصم وعبده عن زر قال: «سألت أبي بن كعب عن المعوذتين فقال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قيل لي فقلت فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه البخاري ثم قال حدثنا علي بن عبد الله ثنا سفيان ثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش وحدثنا عاصم عن زر قال: «سألت أبي بن كعب قلت أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا فقال: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قيل لي فقلت قل فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» قلت: مفعول القول محذوف وتقديره قيل لي قل أو قيل لي هذا اللفظ فقلت كما قيل لي وتحت هذا السر أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له في القرآن إلا بلاغة لا أنه هو أنشأه من قبل نفسه بل هو المبلغ له عن الله وقد قال الله له: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} فكان يقتضي البلاغ التام أن يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} كما قال الله وهذا هو المعنى الذي أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه بقوله: «قيل لي فقلت» أي إني لست مبتدئا بل أنا مبلغ أقول كما يقال لي وأبلغ كلام ربي كما أنزله إلى فصلوات الله وسلامه عليه لقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة وقال كما قيل له فكفانا وشفانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول هذا القرآن العربي وهذا النظم كلامه ابتدأ هو به ففي هذا الحديث أبين الرد لهذا القول وأنه صلى الله عليه وسلم بلغ القول الذي أمر بتبليغه على وجهه ولفظه حتى أنه لما قيل له قل لأنه مبلغ محض وما على الرسول إلا البلاغ.
الفصل الثاني:
المستعاذ به وهو الله وحده رب الفلق ورب الناس ملك الناس إله الناس الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به ولا يستعاذ بأحد من خلقه بل هو الذي يعيذ المستعيذين ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره وقد أخبر الله تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغيانا ورهقا فقال حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} جاء في التفسير أنه كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح أي فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بسادتهم رهقا أي طغيانا وإثما وشرا يقولون سدنا الإنس والجن والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم فزادوهم بهذه الاستعاذة غشيانا لما كان محظورا من الكبر والتعاظم فظنوا أنهم سادوا الإنس والجن واحتج أهل السنة على المعتزلة في أن كلمات الله غير مخلوقة بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات» رواه مسلم وهو لا يستعيذ بمخلوق أبدا ونظير ذلك قوله: «أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك». رواه مسلم فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته وأنه غير مخلوق وكذلك قوله: «أعوذ بعزة الله وقدرته» أخرجه مسلم وقوله: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات» إسناده قابل للتحسين وما استعاذ به النبي صلى الله عليه وسلم غير مخلوق فإنه لا يستعيذ إلا بالله أو صفة من صفاته وجاءت الاستعاذة في هاتين السورتين باسم الرب والملك والإله وجاءت الربوبية فيها مضافة إلى الفلق وإلى الناس ولابد من أن يكون ما وصف به نفسه في هاتين السورتين يناسب الاستعاذة المطلوبة ويقتضي دفع الشر المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها وقد قررنا في مواضع متعددة أن الله سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه باسم ويقتضيه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هاتين السورتين «أنه ما تعوذ المتعوذون» بمثلها فلابد أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضيا للمطلوب وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث وهو الشيء المستعاذ منه فتتبين المناسبة المذكورة فنقول الفصل الثالث:
في أنواع الشرور المستعاذ منها: في هاتين السورتين الشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين: إما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها وهو أعظم الشرين وأدومهما وأشدهما اتصالا بصاحبه وإما: شر واقع به من غيره وذلك الغير إما مكلف أو غير مكلف والمكلف إما نظيره وهو الإنسان أو ليس نظيره وهو الجني وغير المكلف مثل الهوام وذوات الحمى وغيرها فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه وأدله على المراد وأعمه استعاذة بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما فإن سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة أحدها: شر المخلوقات التي لها شر عموما الثاني: شر الغاسق إذا وقب الثالث: شر النفاثات في العقد الرابع: شر الحاسد إذا حسد فنتكلم على هذه الشرور الأربعة ومواقعها واتصالها بالعبد والتحرز منها قبل وقوعها وبماذا تدفع بعد وقوعها وقبل الكلام في ذلك لابد من بيان الشر ما هو وما حقيقته فنقول الشر يقال علي شيئين: على الألم وعلى ما يفضي إليه وليس له مسمى سوى ذلك فالشرور هي الآلام وأسبابها فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم هي شرور وإن كان لصاحبها فيا نوع غرض ولذة لكنها شرور لأنها أسباب الآلام ومفضية إليها كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها فترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة وعلى الذبح والإحراق بالنار والخنق بالحبل وغير ذلك من الأسباب التي تصيبه مفضية إلى مسبباتها ولابد ما لم يمنع السببية مانع أو يعارض السبب ما هو أقوى منه وأشد اقتضاء لضده كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان وعظمة الحسنات الماحية وكثرتها فيزيد في كميتها وكيفيتها على أسباب العذاب فيدفع الأقوى للأضعف وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة كأسباب الصحة والمرض وأسباب الضعف والقوة والمقصود أن هذه الأسباب التي فيها لذة ما هي شر وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي لكنه مسموماذا تناوله الآكل لذا لآكله وطاب له مساغه وبعد قليل يفعل به ما يفعل فهكذا المعاصي والذنوب ولابد حتى لو لم يخبر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة الخاصة والعامة من أكبر شهوده وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها ** فإن المعاصي تزيل النعم